رسائِل حُبّ وغرام
الرّسائل هي من أهمّ وأقدم وسائل الاتّصال على الإطلاق، وإنّ أدب رسائل الحُبّ والغرام من أهمّ وأعمق أشكال الأدب، وقد كانت هناك العديد من الوقفات على هذا الشكل من الأدب لدى كبار الأدباء والكتّاب، ومن أشهرها رسائل غسّان كنفاني لغادة السّمان والرّسائل المُتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران وغيرهم، وسنستعرض في هذا المقال هذا الشكل من أشكال الأدب العميق.
رسائل حُبّ من غسّان كنفاني إلى غادة السّمان
أعرف أنّ الكثيرين كتبوا إليك، وأعرف أنّ الكلمات المكتوبة تُخفي عادةً حقيقة الأشياء، خصوصاً إذا كانت تُعاش وتُحسّ وتُنزَف على الصّورة الكثيفة النّادرة الّتي عشناها في الأسبوعين الماضيين، ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أنّ شيئاً واحداً فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته، وربّما مُلاصقته الّتي يخيّل إليّ الآن أنّها كانت شيئاً محتوماً، وستظلّ كالأقدار الّتي صنعتنا: إنّني أحبّك، الآن أحسّها عميقةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يُمكن لرجلٍ مثلي أن يمرّ فيه، وبدت لي تعاساتي كلّها مجرد معبر مزيّف لهذه التّعاسة التي ذُقتها في لحظةٍ كبريق النّصل في اللّحم الكفيف.
يقولونَ أنّ علاقتنا هي علاقة من طرفٍ واحد، وأنّني ساقطٌ في الخيبة، قيلَ إنّني سأتعبُ ذاتَ يوم من لعقِ حذائك البعيد، يُقال إنّك لا تكترثينَ بي، وإنَّكِ حاولتِ أن تتخلّصي منّي ولكنّني كنتُ مِلْحاحاً كالعَلَق، يشفقونَ عليّ أمامي، ويسخرونَ منّي ورائي، ويقرؤونَ لي كما يقرؤونَ نماذجَ للشّاعر المجنون.
أنتِ في جِلدي وأحسّكِ مثلما أحسّ فلسطين، ضياعُها كارثة بلا أيّ بديل.
كُنت أعرف في أعماقي أنّني لا أستحقّك، لي لأنَّني لا أستطيع أن أعطيكِ حبّات عينيّ، ولكن لأنّني لن أستطيع الاحتفاظ بكِ إلى الأبد.
فى أعماقي أعرف أنّني حين أراكِ سأتكوّم أمامك مثل قطٍ أليف يرتعش من الخوف، فلماذا أنت معي هكذا ؟ أنت تعرفين أنّني أتعذّب وأنّني لا أعرف ماذا أريد، تعرفين أنني أغار وأحترق وأشتهي وأتعذّب، تعرفين أنّني حائرٌ وأنّني غارقٌ في ألف شوكة بريّة، تعرفين ورغم ذلك فأنت فوق ذلك كلّه، تحولينني أحياناً إلى مُجرّد تافهٍ آخر.
ولكنّني أغفر لكِ، مثلما فعلت وأفعل وسأظلّ أفعل، أغفر لكِ لأنّك عندي أكثر من أنا وأكثر من أيّ شيءٍ آخر، لأنّني ببساطةٍ أريدك وأحبّك ولا أستطيع تعويضك، لأنني أبكي كطفلٍ حين تقولين ذلك، وأحسّ بدموعي تمطر في أحشائي، وأعرف أنّني أخيراً مطوَّقٌ بكِ بالدّفء والشّوق، وأنّني دونكِ لا أستحقّ نفسي، وأعرفُ أيضاً أنّ حُبَّكِ يستحقُّ أن يعيشَ الإنسانُ له.
إنّني أقول لك كُلّ شيءٍ لأنّني أفتقدك، لأنّني أكثر من ذلك تعبتُ من الوقوف دونك.
ولكنّني متأكِدٌ من شيءٍ واحد على الأقل هو قيمتك عندي، أنا لم أفقد صوابي بِكِ بعد، ولذلك فأنا الّذي أعرف كم أنتِ أذكى وأنبل وأجمل، لقد كُنتِ في بدني طوال الوقت، في شفتي وفي عيني وفي رأسي، كنتِ عذابي وشوقي والشيء الرّائع الذي يتذكّره الإنسان كي يعيش ويعود".
أنا لا أحبّكِ فقط؛ ولكنّني أؤمن بكِ؛ مثلما كان الفارس الجاهلي يؤمن بكأس النِّهاية يشربهُ وهو ينزِفُ حياته! أؤمن بكِ كما يؤمن الأصيل بالوطن والتقيُّ بالله والصّوفيّ بالغيب، لا كما يؤمن الرّجل بالمرأة!.
إنّني أعود إليكِ مثلما يعود اليتيم إلى ملجأه الوحيد، وسأظلّ أعود: أعطيكِ رأسي المبتلّ لتجفّفيه بعد أن اختار الشّقي أن يسير تحت المزاريب.
دونك أنا في عبث، أعترف لكِ مِثلما يعترف المحكوم أخيراً بجريمةٍ لم يرتكبها وهو في طوق المشنقة، كي يُبرّر لنفسه نهايةً لا يريدها.
رسائِل حبّ من مي زيادة إلى جبران خليل جبران
جُبران! لقد كتبت كُلّ هذه الصّفحات لأتحايد كلمة الحُبّ، إنّ الّذين لا يُتاجرون بمظهر الحُبّ ودعواه في المراقِص والاجتماعات، يُنمّي الحُبّ في أعماقهم قوّةُ ديناميكيّة، قد يغبط الذين يوزّعون عواطفهم في الّلألأ السّطحي لأنّهم لا يُقاسون ضغط العواطف الّتي لم تنفجر، ولكنّهم يغبِطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنّوها لِنفوسهم، ويفضّلون وِحدتهم ويُفضّلون السّكوت، ويُفضلون تضليل القلوب عن ودائِعها، والتلهّي بما لا عِلاقة له بالعاطفة، ويفضّلون أيّ غُربةٍ وأيّ شقاء، وهل مِن شقاءٍ في غير وحدة القلب؟ على الاكتفاء بالقطرات الشّحيحة.
ما معنى هذا الّذي أكتُبه؟ إنّي لا أعرِفُ ماذا أعني به، ولكنّي أعرفُ أنّك محبوبي، وأنّي أخافُ الحُبّ، أقول هذا مع عِلمي أنّ القليل من الحُبّ الكثير، الجفاف والقحط واللاشيء بالحُبّ خيرٌ من النّزر اليسير، كيف أجسُر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أُفرّط فيه؟ لا أدري.
الحمد لله أنّي أكتبه على الورق ولا أتلفّظُ بِه لأنّك لو كُنت الآن حاضراً بالجسد لهربتُ خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيتُ زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلّا بعد أن تَنسى.
غابت الشّمس وراء الأفق، ومِن خِلال السُّحب العجيبة الأشكالِ والألوان حصحصتُ نجمةً لامعةً واحدة هي الزُّهرة آلهةَ الحُبّ، أتُرى يسكُنها كأرضنا بشرٌ يُحِبّون ويتشوّقون؟ رُبما وُجِد فيها بِنتٌ هي مثلي، لها جُبرانٌ واحد، حلوٌ بعيد هو القريبُ القريب، تكتب إليه الآن والشّفقُ يملأ الفضاء، وتعلم أنّ الظّلام يَخلف الشّفق، وأنّ النّور يتبع الظّلام، وأنّ اللّيل سيخلُف النّهار، والنّهار سيتبع الّليل مرّاتٍ كثيرة قبل أن ترى الّذي تُحب، فتتسرّب إليها كُلّ وحشة الشّفق وكُلّ وحشة اللّيل، فتُلقي بالقّلم جانِباً لتحتمي من الوحشة في اسمٍ واحدٍ: جُبران.
رسائِل حُبّ من جُبران خليل جُبران إلى مي زيادة
نحن اليوم رهن عاصِفةٍ ثلجيّةِ جليلةٍ مهيبة، وأنتِ تعلمين يا ميّ أنا أحِبُّ جميع العواصف وخاصَّةً الثّلجيّة، أحِبّ الثّلج أحبّ بياضه وأحِبّ هبوطه وأحِبّ سُكوتَه العميق، وأحِبّ الثّلج في الأوديةِ البعيدة المجهولة حتّى يتساقط مرفرفاً، ثمّ يتلألأ بنورِ الشّمس، ثُمّ يذوب ويسير أغنيته المنخفضة، أحِبّ الثّلج وأحِبّ النّار، وهُما من مصدرٍ واحد، ولكن لم يكن حُبّي لهما قطّ سِوى شكلٌ مِن الاستعداد لحُبٍّ أقوى وأعلى وأوسع، ما ألطف من قال: يا مي عيدُكِ يوم، وأنتِ عيدُ الزّمان.
انظُري يا محبوبتي العذبة إلى قُدس أقداس الحياة، عندما بَلغتُ هذه الكلمة (رفيقة) ارتعش قلبي في صدري، فقُمت ومَشيت ذهاباً في هذه الغُرفة كمن يبحثُ عن رفيقة، ما أغرَب ما تفعله بِنا كلمةُ واحدة في بعض الأحايين، وما أشبه تِلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسةِ عِند الغروب، إنّها تحوّل الذّات الخفيّة فينا من الكلام إلى السّكوت، ومن العمل إلى الصّلاة.
تقولين لي أنّك تخافين الحُبّ، لماذا تخافين يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشّمس؟ أتخافين مدّ البحر؟ أتخافين مجيء الرّبيع؟ لماذا يا تُرى تخافين الحُبّ؟
أنا أعلم أنّ القليل مِن الحُبّ لا يُرضيكِ، كما أعلم أنّ القليل في الحُبّ لا يُرضيني، أنتِ وأنا لا ولن نرضى بالقليل نحن نُريد الكثير، نحن نُريد كُلّ شيء نحن نُريد الكمال، أقول يا مي أنّ في الإرادةِ الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظِلاًّ من أظلال الله فسوف نحصل دون شكِّ على نورٍ من أنوار الله.
لا تخافي الحُبّ يا مي، لا تخافي الحُب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رُغم ما فيه من الألمِ والحنين والوحشة، ورُغم ما فيه من الالتباس والحيرة.